صفقة الهدنة المتعثرة- بين الإبادة، أحلام إسرائيل، وإرادة المقاومة

إذا أردنا تقديم موجز مكثف للأدوار المحورية في فيلم "الهدنة"، الذي انطلق عرضه في الدوحة في منتصف غشت/آب، يمكننا القول بأن ثلاثة أطراف تتقاسم الدور الرئيسي. الطرف الأول يتمتع بنفوذ واسع وإمكانات هائلة، إلا أنه يتردد في إرساء العدل وإنصاف المظلوم. أما الطرف الثاني، فإنه يعتمد بشكل كبير على الطرف الأول ويستمد قوته منه، ولم يجد ما يحفزه على تحقيق العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه. في المقابل، يقف الطرف الثالث وحيدًا معزولًا، ولا يزال يتحسس طريقه نحو استرداد حقوقه المسلوبة وانتزاعها.
ولإعطاء صورة أكثر دقة وتفصيلًا، نجد أن هذا الفيلم يمتد على مدى زمني طويل ويتألف من حلقات متتالية، شهدت خلالها المنطقة أشكالًا متنوعة من الإثارة والتوتر منذ إعلان قيام إسرائيل في عام 1948. في تلك الفترة، تم عقد سلسلة من الهدن المتتالية مع الدول العربية المجاورة لفلسطين، وذلك خلال الأشهر التسعة التي تلت وقف إطلاق النار. ومن المفارقات العجيبة أن ملف مباحثات الهدنة الأخيرة قد نوقش في الشهر العاشر لحرب غزة، وكأن القدر شاء أن تُعقد الهدنة الأولى في أعقاب ولادة الدولة العبرية، بينما تمت الدعوة إلى الهدنة الأخيرة في خضم حملة طوفان الأقصى، التي أعادت إحياء القضية الفلسطينية وجعلتها تشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل.
وفي اجتماع الدوحة الذي انعقد في ظل استمرار حملة الإبادة، اتضح بجلاء أن الهوة بين الجانبين أصبحت أوسع وأكثر عمقًا مما كانت تصوره الحملات الإعلامية المضللة، التي روّجت للاجتماع باعتباره "فرصة أخيرة". ويعود ذلك إلى عاملين أساسيين: أولهما يتمثل في إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عن سلسلة من اللاءات القاطعة، والتي رفض فيها المطالب الجوهرية التي تقدمت بها حركة حماس، مثل وقف القتال الدائم، والانسحاب الكامل من قطاع غزة، وعودة النازحين الغزيين إلى القطاع دون قيد أو شرط. أما العامل الثاني، فيتمثل في تقديم الجانب الأمريكي لورقة جديدة، وصفتها حركة حماس بأنها تتطابق إلى حد كبير مع الموقف الإسرائيلي المتعنت.
وقد شكلت هذه الورقة تحولًا بالغ الأهمية، حيث أشارت بوضوح إلى أن اللعبة قد أصبحت مكشوفة، وأن الحوار بات يجري بشكل حصري بين الإسرائيليين والأمريكيين، في حين تم استبعاد الفلسطينيين من أي دور أو مشاركة. وقد لوحظ أن الاستعلاء الإسرائيلي قد ازداد بشكل ملحوظ بعد عودة نتنياهو من واشنطن، عقب لقائه بالرئيس الأمريكي جو بايدن، واجتماعه مع المرشح الرئاسي دونالد ترامب. وقد منحه ذلك جرعة زائدة من الجرأة والوقاحة، دفعته إلى الإعلان عن لاءاته بصوت عالٍ وبكل صراحة.
والشاهد على ذلك، أن التصعيد والغطرسة اللذين تجليا على نتنياهو بعد عودته من الولايات المتحدة في أواخر شهر يوليو/تموز الماضي، لا يمكن استبعاد أن يكونا نتاجًا للبهجة والوعود التي تلقاها الرجل بعد لقائه مع ترامب، تحسبًا لفوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويبدو أن هذا التشجيع قد لاقى صدى واسعًا في أوساط المقربين منه. ويؤكد ذلك الهجوم الشرس الذي شنه مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد أردان، وهو أحد قادة حزب الليكود، على المنظمة الدولية، حيث طالب بإغلاق مقرها في نيويورك ومحوه من على وجه الأرض، وذلك حسب ما نقلته عنه صحيفة "معاريف" الإسرائيلية.
ويمكن تلخيص ما تبلور حتى الآن في النقاط التالية: عندما أعلن نتنياهو عن لاءاته القاطعة، وأصر على حصر التفاهمات حول قضايا هامشية وأقل أهمية، أصبح الحديث مرفوضًا حول وقف القتال الدائم أو انسحاب قوات الاحتلال أو حرية حركة الغزيين في القطاع. وبدلًا من ذلك، يبقى الحوار مفتوحًا حول أعداد وأسماء الأسرى الأحياء منهم والأموات، وإعادة انتشار القوات الإسرائيلية، وتوفير بعض المواد الإغاثية، وغير ذلك من العناوين التي يمكن المناقشة حولها لأشهر أو سنوات طويلة.
أما الطرف الأمريكي، الذي يعتبر الراعي الرسمي لإسرائيل، فإن شاغله الأول يتمثل في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وحشد الأصوات لنائبته المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس. أما شاغله الثاني، فهو يتمثل في تقديم الدعم المطلق لإسرائيل والتمادي في الدفاع عنها سياسيًا وعسكريًا، مع السعي في الوقت ذاته لتجنب توريط الولايات المتحدة في أي حرب إقليمية قد تنفجر فجأة.
ويبدو العنوان الأخير بالغ الأهمية عاديًا وبريئًا في ظاهره، إلا أنني أخشى أن يخفي في طياته شيئًا آخر، ألا وهو الانتقال بالمباحثات إلى العاصمة المصرية القاهرة، بدعوى استكمال مناقشة الورقة الأمريكية في رحابها. وهذا الأمر يثير العديد من التساؤلات المشروعة؛ لأنه إذا كانت حركة حماس قد رفضت الورقة الأمريكية (المعدلة)، واعتبرتها متوافقة مع الموقف الإسرائيلي، فما هو الأمر الذي يجري التفاوض بشأنه في العاصمة المصرية؟
وإذا كان نتنياهو قد حدد لاءاته بشكل قاطع، في حين قبلت إسرائيل بتلك الورقة، فهل ستدور مناقشات القاهرة بين هذين الطرفين فقط، وتغيب عنها حركة حماس؟ وهل سيصبح الهدف في هذه الحالة هو التركيز في اجتماعات القاهرة على حل عقدتين تمثلان أهمية خاصة لدى إسرائيل والولايات المتحدة في الوقت الراهن، وهما: ملف محور فيلادلفيا، الذي تعترض مصر على الوجود الإسرائيلي فيه، ويتمسك نتنياهو بذلك الوجود، رغم تعارضه الصريح مع اتفاقية كامب ديفيد، والهدف من ذلك هو استرضاء مصر لا لشيء إلا لكي تنضم بثقلها إلى الضغوط الهائلة الموجهة على حركة حماس.
وإذا ما ذهبنا في التحليل إلى أبعد من ذلك، فإننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال تجاهل الشكوك العميقة التي تكمن وراء رسالة الانتقال إلى العاصمة المصرية، وما إذا كان المراد بها استثمار موقع ودور القاهرة المحوري، باعتبارها الحاضنة لجامعة الدول العربية، في تمرير المشروع الأمريكي المشبوه، مما قد يعني أن ثمة موقفًا عربيًا خفيًا يؤيد هذا المشروع، ويُضاف إلى الضغوط المتزايدة الموجهة على حركة حماس، التي أعلن الأمريكيون رسميًا أنها الطرف الذي يعطل الصفقة برمتها. وفي هذه الحالة، يتم تقديم حماس كطرف معزول يغرد خارج السرب.
وتبدو هذه الأسئلة مشروعة ومثيرة للقلق البالغ، خاصة وأن نتنياهو قد تحدث في خطبته أمام الكونغرس الأمريكي في 24 يوليو/تموز الماضي عن تشكل معسكر سياسي جديد في الوقت الراهن، يضم الولايات المتحدة وإسرائيل و"الأصدقاء العرب"، معتبرًا أن هذا المعسكر يمثل الصراع الأزلي بين قوى الهمجية وقوى الحضارة.
وإذا ما تابعنا الضغوط السياسية الأمريكية الهائلة التي تبذل لتسويق مشروعها المشبوه في الساحة الدولية، فسنلاحظ أنها ترقى إلى مستوى محاصرة حركة حماس، بهدف إبقائها وحيدة معزولة في ساحة المواجهة السياسية، تمامًا كما كانت وحيدة في خوض المواجهة العسكرية الشرسة. ويحدث ذلك في الوقت الذي يجري فيه إيهامنا من قبل الأمريكيين ووسائل الإعلام الموالية لهم والمطبّعة معهم باستمرار الحوارات "البناءة"، وتقريب وجهات النظر وتقليل الفجوات بين الطرفين، في حين أن ما يحدث على أرض الواقع يتناقض مع ذلك تمامًا. فحملة الإبادة والتهجير ما زالت مستمرة، وكذلك خطوات إعادة احتلال قطاع غزة، والتوحش المتزايد للمستوطنين ونهبهم المستمر للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
وفي الوقت الذي يُعاد فيه تخطيط قطاع غزة بشكل ممنهج، والتحضير لإلحاق شماله بإسرائيل ليلاقي مصير الجولان المحتل منذ عام 1967، هناك همس مسموع يذكرنا بأطماع إسرائيل الجامحة في الغاز الطبيعي المدفون في أعماق بحر غزة. والخلاصة هي أن جهود محو فلسطين واقتلاع أهلها من جذورهم تداعب أحلام الإسرائيليين، وقد أظهرها نتنياهو بشكل وقح أمام مجلس الأمن في شهر سبتمبر/أيلول 2023، حين عرض على المجلس صورة لخريطة الشرق الأوسط، قام بمحو فلسطين منها تمامًا.
وذلك ليس سوى غيض من فيض مما تحفل به أجندة المتطرفين وأحلامهم المريضة التي يسعون جاهدين لتحقيقها على أرض الواقع، ومنها ما يثير قلقنا العميق حقًا، ولكنه لا يرهبنا أبدًا. لأن الإرادة الصلبة التي تجلت بأبهى صورها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول قادرة بكل تأكيد على أن ترد كيدهم إلى نحورهم بعون الله وتوفيقه. وهذه الإرادة التي تقارع جيش إسرائيل وتصمد بثبات في تفاهمات الصفقة بقدر صمودها الأسطوري في ساحة القتال، تتجدد في ثباتها الراسخ على مواقفها المبدئية ليس فقط لأنهم يمثلون جيل أطفال الحجارة في انتفاضة عام 1987، ولكنهم أيضًا تعلموا جيدًا الدرس القاسي من اتفاقية أوسلو وفخاخها الخبيثة، التي لا يزال الفلسطينيون يعانون من آثارها المدمرة منذ عام 1993.
هؤلاء وأولئك ليسوا حركة حماس فقط، ولكنهم أجيال متلاحقة من الشعب الفلسطيني الأبي صاحب الأرض، الذين ولدوا من رحم الإبادة والتهجير القسري. وللتذكير فقط، فإن اتفاقية أوسلو المشؤومة قد منحت اعترافًا صريحًا بحق إسرائيل الزائف في الوجود على أرض فلسطين المباركة، وأعطت الفلسطينيين سلطة وهمية على الأرض، أصبح التنسيق الأمني المهين رمزًا لها، كما وعدتهم بحكم ذاتي زائف يمهد لإقامة الدولة بعد 5 سنوات، في حين تبقيها في كنف إسرائيل. ولكن ذلك كله قد تبخر ولم يبقَ منه شيء يذكر، الأمر الذي انتهى بالخريطة الكارثية التي عرضها نتنياهو على مجلس الأمن منذ عام، مستعرضًا بكل صلف ما تصور أنه محو لفلسطين من الوجود بشكل كامل.
إن فشل هذه الصفقة المشؤومة، وهو ما لا نتمناه أبدًا، يعني استمرار القتال الدامي إلى أجل غير مسمى، ولا يعلمه إلا الله. وفي هذه الحالة، لن يبقى أمام هؤلاء الفلسطينيين الأبطال أي بديل مشروع آخر يدافعون من خلاله عن حلمهم المؤجل في الاستقلال والحرية، خاصة بعد الثمن الباهظ الذي دفعوه منذ طوفان الأقصى المبارك، الأمر الذي يفتح الأبواب على مصراعيها أمام مختلف أشكال العنف والResistance، الذي بدأت إرهاصاته في مواجهة جرائم المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية المحتلة، ولاحت مقدماته في نموذج العمليات الاستشهادية البطولية التي شهدتها تل أبيب مؤخرًا، وقد تتسع دائرة الاستهداف لتشمل العناصر المتواطئة مع إسرائيل وداعميها ومصالحها الخبيثة في الخارج.
ولا يُنسى في هذا الصدد أن قيادة حركة حماس الصامدة، ممثلة في شخصية يحيى السنوار الفذة، رئيس مكتبها السياسي، الذي خلف الشهيد البطل إسماعيل هنية، قد أمضت 22 عامًا من عمرها في السجون الإسرائيلية المظلمة، وهي تدرس وتخطط بعمق ليس فقط لاستعادة الحلم الفلسطيني المشروع، ولكن أيضًا للاستشهاد في سبيل تحقيقه. وليس هذا الموقف النبيل مجرد موقف فردي أعدته الأقدار لهذا الدور التاريخي، بل هو رمز لجيل بأكمله يراوده الحلم ذاته، ولا يزال يحتفظ في خزائنه الصدئة بمفاتيح بيوته التي هُجِّر منها الأجداد قسرًا منذ 76 عامًا.